اعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان
الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
اعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأُصلي وأسلم على المبعوث
رحمةً للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من
الجنة منزلا.
طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلًا، أسأل الله عز وجل بفضله
ومنته كما جمعنا في هذا اللقاء المبارك أن يجمعنا عنده في الفردوس الأعلى، وأن
يخرجنا من هذه الدنيا غير خزايا ولا مفتونين وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما
بطن، ونكرر دعاء النبي ﷺ في هذه الفترة الزمنية من الفتن: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا وقلوب ذرارينا على دينك.
نسأل الله أن يصلح لنا النية والذرية ويرزقنا التمتع بهذه الجلسات
المباركة التي هي خير من الدنيا وما فيها، وهي سلوك لطريق الجنة كما قال ﷺ: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وإن
الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالِم ليستغفر له من في
السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر".
كنا بدأنا في كتاب الرقاق للبخاري وتظهر عبقرية البخاري في التبويب
(اسم الباب)، ثم تظهر عبقرية البخاري في إتيانه بآية ويشرحها بحديث من أحاديث
النبي ﷺ.
قلنا أن باب الرقاق فيه ما يلين القلب تجاه الله والدار الآخرة، وبدأ
يبين لنا حقيقة الدنيا التي يحزن عليها الناس ليلًا ونهارًا، وإن الدنيا مثل
الزهرة التي لابد أن تأخذ وقتها ثم لابد أن تذبل وتذروها الرياح ثم تأتي أحاديث
ينظر فيها الرسول ﷺ لأصحابه وهو يبتسم –بأبي هو وأمي ﷺ– ويقول: "والله ما الفقر أخشى
عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتلهيكم كما
ألهتهم".
فتجدي أنك أمام أحاديث الرسول ﷺ نفسك صغيرة جدًا عندما تتضايقي على أي
شيء في الدنيا، تشعري أنك ضائعة، أين أنا من هذا الكلام؟ موْتى! أين هذا الكلام
عندما كنا نتضايق من أجل البيت والدخل والراتب والأسعار..، أين كان هذا الكلام! نسأل
الله عز وجل ألا يحرمنا نور الوحي والسُّنة.
سنبدأ الآن باستكمال كتاب الرقاق للبخاري:
ثم قال البخاري رحمه الله:
6430- حدثني يحيى بن موسى، حدثنا وكيع، حدثنا
إسماعيل عن قيس، قال: سمعت خبابًا وقد اكتوى يومئذٍ سبعًا في بطنه، وقال: لولا أن
رسول الله ﷺ نهانا أن ندعو بالموتِ لدعوتُ بالموتِ، إن أصحاب محمد ﷺ مَضَوا ولم
تَنْقُصْهُمُ الدنيا بشيء، وإنا أصبنا من بعدهم شيئًا، لا نجد له موضعًا إلا في
التراب.
خباب الصحابي الجليل يريد أن يدعو على نفسه بالموت! شيء عجيب! نريد أن
نعرف لماذا يريد أن يدعو على نفسه بالموت، هل لأنه اكتوى سبعًا في بطنه من المرض
أو من شدة الألم؟
6431- حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى عن إسماعيل قال: حدثني قيس، قال: أتيت خبابًا وهو يبني حائطًا
له فقال: إن أصحابنا الذين مَضَوا لم تنقصهم الدنيا شيئًا، وإنا أصبنا من بعدهم
شيئًا، لا نجد له موضعًا إلا في التراب.
يوجد حديثين: الحديث الأول فيه أن خباب اكتوى ثم قال: "لولا أن رسول الله ﷺ نهانا أن ندعو بالموتِ لدعوتُ
بالموتِ". لماذا؟ هل يئس من رحمة الله؟ هل حزن على حاله في الدنيا أم
لأنه مَرِض؟
خوفه الفتنة من
انفتاح الدنيا، خائف من أن الدنيا تلهيه عن الدار الآخرة.
قوله
"لدعوت بالموت": أي من انفتاح الدنيا لأنه علل ذلك إن أصحابنا –أصحاب
محمد ﷺ– مضوا من الدنيا لم تنقصهم الدنيا بشيء، وإنا أصبنا من بعدهم شيئًا لا نجد
له موضعًا إلا التراب أي من كثرة المال الذي معنا نشتري التراب ونبني التراب.
هو يقصد أنه يبني الدور في الدنيا فهو مشفق من الآخرة لأنه يبني دار
في الدنيا وهو لن يعيش فيها، فمن ورع خباب يتعجب من أنه وصل لمرحلة أنه يشتري
التراب الذي يصنع منه الطين والطوب ويبني ديار له في الدنيا وهو لن يعيش في
الدنيا. فكم كان أمله قصير رضي الله وأرضاه.
الحديث الثاني مر الصحابي قيس على خباب وهو يبني حائطا
له أي بيت، فقال خباب: إن أصحابنا الذين مَضَوا لم تنقصهم الدنيا شيئًا، وإنا
أصبنا من بعدهم شيئًا، لا نجد له موضعًا إلا في التراب. وفي الأدب المفرد خرج
البخاري الأحاديث التي فيها أن النبي ﷺ مر على بعض الصحابة وهم يصلحون لهم خُصًّا
(بيت من الخوص) فقال ﷺ وهو يرى الصحابي يصلح سقف خصه: "الأمر
أسرع من ذلك" أي
أن يوم القيامة أقرب وأسرع من أن تبني بيت في الدنيا.
نحن نفكر عندما أكبر أين سأعيش؟ المشكلة الأكبر أن الناس يحملون الهم
وحزينة وساخطة، كم من القصور في فهم حقيقة الدنيا.
الرسول ﷺ عندما يقول للصحابي
الذي يصلح سقف بيته: "الأمر أسرع من ذلك" أي أسرع من أن تبني لك في
الدنيا بيتًا.
وفي حديث عن خباب أيضا وهم يعودوه
وهو يبني بيتا: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب.
وهذا كله حال من رق قلبه في
استقبال الآخرة.
هذه هي حالة الناس التي تفكر في لقاء الله وفي الدار الآخرة وتفكر في
الدنيا كما قال النبي ﷺ في أول الباب: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"
ولكن حال الناس الآن ليس كذلك، الناس حزينة أن الشهر القادم لن تشتري كذا،
وحزينة إن الأبناء عندما يكبروا من أين ستجهزهم، وحزينة أن البنت إذا جاء وقت
زواجها كيف سيتصرف الأهل..
كم من الهموم التي يضعنا فيها الشيطان، لو أنت تأخذي هذا بطيب خاطر
كما سنتعلم من كلام الرسول ﷺ، سواء جاء المال أم لم يأتِ فما في مشكلة، نرضى ونسلم
الأمر لله، هذا الأمر يسبب البركة في الحياة، وهذا غير عندما يكون العبد ساخطًا
دائمًا على أمور الدنيا فإنه يحمل من الهموم والغموم ما لم يكلفه الله سبحانه
وتعالى.
فالإنسان
كلما زاد في الشعور أنه لا عيش إلا عيش الآخرة كما ابتدأنا في كتاب الرقاق زهَّدَه
ذلك في تعلقه بالدنيا.
المهم في
كلام خباب رضي الله عنه وهو متقدم في الهجرة للنبي ﷺ أنه أحزنه بقاؤه في الدنيا
وزيادة النعيم فيها ورأى أن أصحاب النبي ﷺ سبقوا وماتوا وحفظوا أنفسهم من أن
يلهيهم المال ويلهيهم البناء وتفتح عليهم الدنيا.
نحن اليوم ما الذي يلهينا؟ ما تفكيرنا؟ كم أدخر، ماذا سأبني، ماذا
سأشتري!
لا بأس من الادخار وكل هذه
الأشياء إذا كانت تأتي هكذا بدون هموم وهذا الذي سيتضح في الأحاديث القادمة.
إن أصحابنا الذين مَضَوا لم تنقصهم الدنيا شيئًا: أي ما
أنقصت من قلوبهم شيء. وأيضا ما أنقصت من أجورهم شيء.
فكأن خباب رضي الله عنه تصور وهذا التصور صحيح أنه كلما
زِدْتَ استمتاعا في الدنيا نقص في الآخرة.
تصور خباب إن كلما استمتع العبد استمتاعا يلهيه عن القرب من الله
والدار الآخرة كلما نقص ذلك من أجره في الآخرة وسيأتي لك بالأدلة.
فهو رأى أن
أصحاب النبي ﷺ عاشوا فترة من الضيق في الرزق مع النبي ﷺ وماتوا فمن اليقين أن يكون
نعيمهم التام في الآخرة، فلما رأى ما هو فيه من النعيم وكثرة المال والبناء ضاقت
عليه نفسه أن ينقص ذلك من أجره في الآخرة وهذا المعنى صحيح إلا من صبر وذكر وشكر.
مثل حديث الرسول ﷺ المرفوع: "نِعم المال الصالح مع الرجل الصالح"
لو هو غني وهذا الغنى وكثرة المال وكثرة العرض لم تلهيه عن التفكير في الله
والانشغال بالله والدار الآخرة فما ينقصه شيء، لكن دائمًا –إلا من رحم الله- كثرة
المال والجاه والفرش تُنسي العبد الدار الآخرة وتشغله، فنسأل الله السلامة
والعافية ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقَابِرَ (2)﴾ هذا قصد خباب، وسيبدأ الشُراح يأتون بأحاديث أن الفقراء يدخلون الجنة
قبل الأغنياء بخمسمائة عام، لماذا؟
لأن ما معك أنت محاسبة عليه، فمثلا عندك في خزانتك عشر عبايات أو مال
كثير، فمن الأسئلة: من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ هل أخرجت حق الله فيه؟ من أين أتيت
به؟ هل ألهاك عن الله والدار الآخرة؟
ولذلك سيأتي حديث عن النبي ﷺ بعد هذا يقول لك: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد
الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"
كلام خباب يجعلك ما تحزني على أن عندك
أشياء قليلة وغيرك عنده الكثير.
هذا من سوء الفهم وعدم الرضا بقسمة
الله جل وعلا، كما أنه ليس دليل على كرامة العبد عند الله عز وجل.
نستفيد من
الحديث الذي ذكره خباب إن أصحاب الرسول ﷺ مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيء ولم ينقصوا
شيء:
1- التحذير
من زهرة الحياة الدنيا والتنافس فيها.
2- إن أصحاب
النبي ﷺ لما فُتحت عليهم الدنيا أبغضوها.
خافوا من الانفتاح، نحن الآن مم
نخاف؟ من الفقر، نحن نخاف من الفقر، هذا الكلام سيضبط طريقة تفكيرك، نحن نخاف
الفقر! لكن الصحيح أنك تخافي من انفتاح الدنيا وكثرة اللهو، وهذا هو كلام النبي ﷺ.
كلام حول بناء البيوت يرجع له
في موطنه، ملخصه: أنه إذا كان لستر العبد ومنعه من الحاجة إلى الناس فلا بأس،
المهم ألا يكون فيه مغالاة تلهيكِ عن الله والانشغال بالله والدار الآخرة.
عندما تبني بيت تبنيه لتتستري.. ما تحتاجي لأحد
وما تكوني ثقيلة على أحد وتتعففي أنك تسألي أحد أن يسكنك عنده، لكن بشرط ألا يكون
هذا البناء فيه إشغال لكِ من كثرة البهرجة والانفاق وإنفاق الأوقات.
لي بعض الصديقات ظلت تبني بيتها خمسة عشر سنة
وهي فيه، كلما سألناها أين أنتِ لماذا لا تأتي؟ تقول عندي عمال، لماذا لا تحضري
الدروس؟ تقول عندي عمال، أقابلها بعد سنة أجد عندها عمال بعد سنتين عندها عمال!
صدقًا!
هي مشغولة بالبيت وبالبناء، أنت ممكن تبني وما
تنشغلي بالبيت هذا الانشغال الرهيب، فعلًا الشيطان من وسائله أن يشغلك بالمباحات
حتى يشغلك بالفاضل عن المفضول وهذه الدرجة السابعة.
الأول يبدأ معكِ بالكفر أو الشرك الأكبر المخرج
من الملة، ثم الثاني: البدعة، الثالث: الكبائر، الرابع: الصغائر، الخامس:..،
السادس: المباحات، لكن هذه المباحات ستسبب لكِ شيء غير مباح وهو الانشغال عن الله
جل وعلا، والانشغال عن تدبر القرآن الانشغال عن فهم حديث النبي ﷺ الانشغال عن
تربية الأولاد على الدين القويم.
نحن عرفنا
أن منتج التربية في سورة النور المطلوب من كل أم؟ ﴿رِجَالٌ
لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ﴾[1]
هل هذا حالنا؟ هل هذا منتجنا؟ نسأل الله أن يغفر لنا.
فهنا يقول لك:
أن بناء البيوت يوقع في النفس
الاستقرار فيرى أنه ليس بحاجة إلى أحد ثم ينكب على هذا البيت فيزينه ويهتم به
ويهتم بفرشه وينشغل بذلك ليل نهار حتى تضيع الحياة.
الأخوات التي عندها نجف كريستال وتهتم أن تنظف
الكريستال واحدة واحدة، دائما في شغل وبهرجة وفرش..، هذه هي حياتنا؟ النظافة من
الإيمان، إن الله عز وجل يحب أن يرى أثر النعمة على عبده لكن ما يكون هذا شغلك
الشاغل.. أين الله في قلوبنا؟
سنعود لأول الكلام الذي ذكره النبي ﷺ حتى يؤكد
لك صحة تصور خباب رضي الله عنه، نحن نثق أن صحابة النبي ﷺ هم أصلًا ليس كمثلهم أي
رجال فما نشك في تصور خباب رضي الله عنه،
لكن سنقول كيف يدعم هذا التصور أحاديث النبي ﷺ التي ذكرت "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ولذلك
كان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء.
6432- حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن
الأعمش عن أبي وائل عن خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع رسول الله ﷺ. الحديث.
ثم سيبدأ البخاري يقص قصة ثم يذكر باب قول الله تعالى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ
إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ﴾ ([2]) ذكر الباب بعنوان الآية، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ
إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ﴾ وعد الله حق في
ماذا؟
في الدار الآخرة، وكل هذه الدنيا ستفنى، وستقفوا بين يدي الله جل
وعلا، وهذا هو المفروض أن يكون اهتمامك وانشغالك، كل تفكيرك.. لماذا أكل، لماذا
أشرب، لماذا ألبس، لماذا أتعلم، لماذا أربي أبنائي؟ ليحملوني عندما أكبر؟! أم
لأتفاخر بهم؟! أم لأقول ابني في كلية كذا، وجامعة كذا، ودرجاته كذا؟!
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ
إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ (5)﴾ ما هو الغرور؟
وما وجه الجمع بين قوله تعالى ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ
ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ﴾ ما الشيء
المشترك بين الحياة الدنيا والشيطان؟
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقك إذا كان لديك أي تساؤل وسنجيبك فور مشاهدة التعليق