القائمة الرئيسية

الصفحات

شرح الرقاق باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، باب مثل الدنيا في الآخرة، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل

 


اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان

الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم

   إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات اعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأُصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا نور الكتاب والسُّنة، فما أجمل مجلس الجمعة عندما تجمعي بين النورين، نور كلام الله جل وعلا ونور السُّنة النبوية التي هي أصلا وحيٌ أتى للنبي ﷺ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[1]، ومن درسوا معنا اسم الله (النور) قلنا: تتفاوت الأنوار في القلوب بمقدار الأخذ من هذا النور.

كل إسم من أسماء الله جل وعلا يعطي نورًا في القلب، كل آية من آيات الله تعطي نورًا في القلب، كل حديث من أحاديث النبي ﷺ يعطي نورًا في القلب، هذا النور يُذْهب ظّلمة القلب، يُذْهب ما به من ضيق وما به من هم، يقول الإمام ابن القيم:

"وعلى قدر الأخذ من الأنوار في هذه الحياة الدنيا على قدر ما يكون معك من نور على الصراط. فمن الناس من يكون نوره على الصراط مثل الكوكب الدري، ومنهم من يكون نوره كالشمس ومنهم من يكون نوره على إبهام قدمه يضيء لحظة ويطفيء لحظة، ومنهم من لا نور له".

هذا النور الذي تأخذي منه هو النور الذي يضعه الله في قلوب عباده الموحدين المقبلين عليه سبحانه وتعالى، الذي ضرب له مثلا عظيما في سورة النور: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾[2] هذا المصباح يساوي الفتيلة، كثير من السيدات يعتقدن أن المصباح هو اللمبة، لا؛ اللمبة هي الزجاجة وهي القلب، لكن المصباح هو الفتيلة التي تشتعل بداخل القلب وتضيئه، فتعكس الزجاجة هذا الضوء، هذه الفتيلة (المصباح) تساوي العلم والإيمان الذي يضيء القلب.

 فقلب بلا علم ولا إيمان هو قلب تائه ضائع كئيب متملل ليس له هدف، على قدر امتلائك بهذا النور من كلام الله وكلام الرسول ﷺ يكون لكِ نورًا في القبر ويكون لكِ نورًا من قبل في طريق سيرك إلى الله سبحانه وتعالى.

ولذلك كما قال النبي ﷺ: "الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا من ذِكرِ الله وما والاه وعالمٍ ومُتَعَلِّم"[3]، فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا النور بأنه هو نور السماوات والأرض.

باب الرقاق لو نعيده ليل ونهار فنحن في احتياج إليه، من في هذا العصر ليس متضايق من غلاء الأسعار؟! من ليس متضايق أنه غير قادر على تحصيل الحاجات الدنيوية التي كان يحصلها؟! من منا ليس متضايق أنه ما فعل شيئًا للمستقبل كما يقولون!

كم من إمرأة تكره زوجها لأنه فقير! كم؟! وكأن فقره في شخصه.

كم من أناس معيار تفكيرهم ونظرتهم للناس بناءً على العطاء الدنيوي؟!

كم من الناس إن أُعطي رضي وإن لم يُعطَ سخط؟! كم؟! كثير جدًا.

لذلك كلام النبي ﷺ فيه تعديل للتفكير، فالبخاري في الأبواب السابقة جعل لكل باب عنوان، أول شيء هو أسماه باب الرقاق لأنه مما يرقق القلب، هل نحن نريد أن نرقق القلب حقيقة أم مجرد مشاعر تأتي وتذهب بدون أن تستقر؟

يعني أنت ممكن تسمعي قصة فتتأثري جدًا ثم تنسين، ممكن واحدة تكون جائعة جدًا فتتمنى الطعام ثم لما تأكل تكون سعيدة بالطعام لثواني وتنتهي، واحدة مثلًا كانت فقيرة واغتنت فتنسى الفقر التي كانت فيه.

لكن هذا الباب يرقق القلب بناءً على علم ثابت راسخ في القلوب.

أولا: قلنا أن الرقاق جمع رقة والمقصود رقة القلب بعد العلم، يتعلم الإنسان علمًا صحيحًا فيرق قلبه وهذه الرِّقة من أفعال القلب.

أي يرق قلبه لهذا الكلام ويتأثر به، ما معنى يتأثر به؟

فقه البخاري وفقه الله في أحاديثه فيه علم، يعرض عليك الأحاديث مع علمه، والعلم غالبًا في أسماء الأبواب.

اسم الباب نفسه علم، نحن سندرس [باب المكثرون هم المقلون يوم القيامة] اسم الباب لوحده علم، أن من سيستكثر من الدنيا وتلهيه الدنيا سيكون الأقل ثوابًا يوم القيامة، على قدر ما ألهته الدنيا وعلى قدر ما شغلته الدنيا، اسم الباب هو لوحده علم قبل ما يعطيكِ الآية ويربطها بحديث.

ويجمع أحاديث وأحيانا يُصَدِّر الباب بآيات كأنه يقول لبيان الأمر يُصَدِّر الآية.

يُصَدِّر الآية ليقول ماذا يجب علينا أن نفعل، البخاري أسماه كتاب الرقاق وكما قلت الرِّقة من أفعال القلب.

ثم عقد مجموعة من الأحاديث توصل الإنسان إن علمها علم اليقين إلى رقة القلب.

عندما يعلم الإنسان هذه الأحاديث والآيات التي جمعها البخاري في هذا الكتاب الذي أسماه بالرقاق فالمفترض أن يصل إلى رقة القلب.

كما قال العلماء ليس مجرد مشاعر تمر على الإنسان بدون علم، لابد أن يكون مصدرها العلم.

يعني عندما تتذكر العلم يتحرك قلبك فيرق، ولذلك نقول:

يتعلم + يتذكر = يرق قلبه

أنتِ مثلًا تعلمتِ علم، فتجدي إمرأة تعيش في قصر، فتقولي: [بيتي فقير!] وهذه خواطر الشيطان، لكن لو أنت لديكِ العلم تقولي: [اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، الحمد لله رب العالمين أن الأكثرون هم الأقلون]

تجدي نفسك تقولي لنفسك: مقدرا شبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها.

تتذكري حديث خباب بن الأرت عندما كان يبني جدارًا له ثم قال: لولا أن رسول الله ﷺ نهى عن تمني الموت لاتمنيت الموت، إن أصحاب رسول الله ﷺ مضوا ولم تنقصم الدنيا شيء ولم ينقصوا منها شيء.

هو حزين على نفسه لأنه يبني جدار، وما مقدر الجدار الذي كان يبني خباب؟!

فأول ما يأتيكِ الشيطان بخواطر وأنت تعلمتِ فما الذي سيحصل معكِ؟ تتذكري، فعندما تتذكري يرق قلبك.

نبدأ الان في الربط بين الأبواب:

في الباب الأول:

[باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة].

وتدارسنا تحته مجموعة من أحاديث النبي ﷺ فكأنه يُقال لكِ مما يرقق القلب أن يعرف الإنسان أن الله أنعم عليه بنعمة الصحة والفراغ ليغتنمها في ما خُلِق له، ويتبين أنه لا عيش إلا عيش الآخرة.

 ما العلاقة بين الصحة والفراغ وبين عيش الآخرة؟

 أن الصحة والفراغ هما السببين الذين ستصلي بهما إلى عيش الآخرة، تستغلي صحتك وتستغلي فراغك لأن تصلي لعيش الاخرة.

لذلك جاء بحديث: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس.." مع حديث: "لا عيش إلا عيش الآخرة"، لأن الذي سيوصلك لعيش الآخرة أنك وأنت في الدنيا تستغلي أقصى ما يمكنك صحتك وفراغك للوصول إلى عيش الآخرة.

ثم ليتبين لكِ الدنيا التي أنت فيها: قال البخاري:

[باب مثل الدنيا في الآخرة]

ليتبين لكِ حقيقة الدنيا لتتركيها وتسيري إلى الآخرة.

نريد أن نربط بين الأبواب حتى لا يكون لديكِ حلقات مفقودة.

فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني: هو فَهِمَ البخاري كيف يُفكر فسُمِّيَ "فتح الباري" لأن فهم طريقة البخاري في طريقة الجمع بين الأحاديث تحتاج إلى فتح من الله، نسأل الله باسمه الفتاح أن يفتح لنا هذا الباب العظيم.

ليتبين لكِ حقيقة الدنيا وتسيري -حقيقةً- إلى الآخرة لابد أن تعرفي حقيقة الدنيا التي أنت فيها، فكان اسم الباب:

باب مثل الدنيا في الآخرة، فذكر آية سورة الحديد: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾[4] وذكر حديث النبي ﷺ: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" فانظري إلى حقيقة الدنيا التي أنت تضايقي وتحزني عليها وكل الناس متضايقة من الغلاء وما هم قادرين يأكلوا ولا يشربوا كما يريدون، ولا يستطيعوا أن يلبسوا أو غيروا أثاث البيت..، هذا كله لا يجب أن نتضايق منه نهائي؛ هذا من السفاسف.

فكلما تجدي حالة نفسية عند العبد ستكون نتيجة لفقده آية من آيات الله أو سُّنة من سنن النبي ﷺ.

فالرسول ﷺ يبين لكِ حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" معنى ذلك أن الصحة والفراغ يغتنمان في عيش الآخرة واعلم ان الدنيا لا شيء في الآخرة.

هذا هو معنى كلام البخاري: مثل الدنيا في الآخرة، ما مثل الدنيا في الآخرة؟ لا شيء.

ما يحزن عليه الناس جدًا ويعملون مشاكل رهيبة والبيوت ممتلئة مشاكل بين الزوجة والزوج من أجل المصروف والأكل والشرب..، يتقاتلوا على ماذا؟ دنيا.

فيقول لك الرسول ﷺ: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها".

كيف أكون في الدنيا؟

[باب قول النبي ﷺ: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"]

ü  ما الذي يمنعنا ان نكون في الدنيا غريب أو عابر سبيل؟

الأمل؛ طول الأمل.

فالسبب الموجود في النفوس الأمل وطوله وفي هذا الباب أورد البخاري حديث النبي ﷺ أن أجل الإنسان وأمله...

فأجل الإنسان عبارة عن مربع وأمله خارج منه، فأنت إعرفي أن أجلك محيط بكِ فلا تجعلي أملك أنك ستعيشي للأبد، لا؛ أنت أجلك محدود فالمفروض أن يكون أملك في الدنيا يكون محدود.

... وكيف أن أمله يطول عن أجله فالمقصود عش في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل بحيث أنك لا تتعلق بشيء وهذا ترقي، كأنك غريب وأعلى منها كأنك عابر سبيل، لكن المشكلة التي نعيش فيها هي مشكلة طول الأمل.

مثلا أنا أريد فلان أن يكتب لي البيت، أو فلان يكتب لي الأرض أو يشتري لي المجوهرات أو يأمن لي حياتي كاني أعيش للأبد، وممكن الزوجة تظل تفكر إن حدث مكروه لزوجها ما الذي سيحدث لها وتريد أن يكتب أملاكه بإسمها، ثم تموت هي قبله، وهو يتزوج غيرها وغيرها وينجب، ما أحد يعرف من يموت قبل من، يعني هذه الأمور لا يجب أن تسبب لكِ أزمة نفسية.

يجب أن تعرفي أن الله عز وجل هو (المقيت)، (المقيت) سبحانه هو من يوصل لكِ قوتك في أي زمان وفي أي مكان بالكيفية التي فيها مصلحتك وبالمقدار الذي يقيم حياتك.

ثم أتى بعده البخاري فأورد قطعة من حديث النبي ﷺ وسماه:

[باب من بلغ الستين سنة فقد أعذر الله إليه]



[1] النجم:4

[2] النور:35

[3] رواه الترمذي (2322)

[4] الحديد:20


تعليقات