القائمة الرئيسية

الصفحات

شرح الرقاق: باب الغنى غنى النفس

 

[باب الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ]

وَقال اللَّه تَعَالَى ﴿أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ -إلى قوله تَعالى- مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَعْمَلُوهَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
6446- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ
"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"

البخاري يعقد أبوابًا يسمي فيها إسم منتزع من حديث النبي ﷺ وبدأ البخاري كما يفعل دائمًا هذا الباب بقول الله عز وجل في سورة المؤمنون: ﴿أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:

 لَمْ يَعْمَلُوهَا لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا. هذا تعليق ابن عيينة على آية المؤمنون، نبدأ أولا بفهم آية سورة المؤمنون، قال الله عز وجل: ﴿أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ٥٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ خَشۡيَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ٥٧ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ٥٨ وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا يُشۡرِكُونَ٥٩ وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ٦٠ أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ٦١ وَلَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ وَلَدَيۡنَا كِتَٰبٞ يَنطِقُ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ٦٢ بَلۡ قُلُوبُهُمۡ فِي غَمۡرَةٖ مِّنۡ هَٰذَا وَلَهُمۡ أَعۡمَٰلٞ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمۡ لَهَا عَٰمِلُونَ٦٣

معلوم أن سورة المؤمنون بدأت بقول الله تعالى "قد أفلح المؤمنون" وهذا حكم بفلاحهم ثم أتى بعد ذلك صفات للمؤمنين أتى من هذا السياق الذي نتدارسه أتى من هم ضدهم، وفي أثناء وصف من هم ضدهم وصف المؤمنون مرة أخرى.

الآيات بدأت في هذا الباب بقوله تعالى: "أيحسبون" من هم؟ فيتبين لكِ من الذين يحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين.

 "نسارع لهم في الخيرات": المقصود بهم من هم ضد المؤمنين، ومن نفس السياق سيتبين من هم ضد المؤمنين، لن تتصورون كيف يحصل الانتقال بين وصف الكافرين ووصف المؤمنين، نسير في السورة بالإجمال ثم نصل إلى الموطن الذي نحن فيه.

تبدأ السورة بقول الله عز وجل "قد أفلح المؤمنون" إلى أن تنتهي صفاتهم في آية 11، ثم بعدما يصف عز وجل المؤمنين يصف لنا كمال صفاته سبحانه وتعالى وآثار كمال صفاته في خلق الإنسان.

 يذكر الله مراحل خلق الإنسان ليبين لكِ كمال الله عز وجل وليبين لكِ أن البعث والحساب حتمًا سيأتي.

عندما يأتيكِ دائمًا في التفسير ذكر لبداية خلق الإنسان فاعرفي أن الله عز وجل يريد أن يبين لكِ قدرته الفائقة على البعث والمحاسبة وهذا من قواعد الشيخ عبد الرحمن السعدي.

من أسئلة دورة الرقاق أيهما تخشى أكثر؟ تخاف على نفسك الفقر؟ أم تخاف على نفسك من الغنى؟ فنحن نسأل الله أن يعافينا من الفقر، ونسأل الله أن يغنينا من فضله، ونسأل الله عز وجل ألا يلهينا بالدنيا.

نبدأ في كلام النبي -باب الغنى غنى النفس- قلنا أن البخاري يعقد أبواباً يسمي فيها عنوان الباب باسم منتزع من الحديث أو من دلالة الحديث، مثل -باب المكثرون هم الأقلون يوم القيامة- وهذا جزء من حديث النبي هنا أيضاً هذا العنوان باب الغنى غنى النفس من حديث النبي .

عن أبي هريرة عن النبي قال: )(ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)(، بدأ الباب بقول الله تعالى يقول: "وقول الله تعالى...." البخاري من جميل ما وجد في كتابه أنه يفسر لك حديث الرسول بكلام الله سبحانه وتعالى كي تجمع في قلبك ما يريد أن يوصله لك من القرآن والسنة فكلام الله نور، والرسول وصف بأنه نور، إذا متى يكتمل النور في قلبك؟ على قدر أخذك كلام الله وكلام الرسول على قدر تفاوت الأنوار في القلوب.

قال البخاري: وقول الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ٥٦ [المؤمنون:55-56] إلى قوله تعالى: ﴿...مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ [المؤمنون:63]. قال ابن عيينة: "لم يعملوها -هذا في متن البخاري- لم يعملوها لابد ان يعملوها"، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((ليس الغنى كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)).

 باب الغنى غنى النفس هذه الجملة منتزعة من حديث النبي وقول الله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ هذه الآية في سورة المؤمنون. بدأ البخاري بالآية (55) أما بداية السورة ما هي صفات المؤمنين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ١ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ٣ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ٤ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ٧ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ٨ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٩ أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ١٠ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١﴾ [المؤمنون:1-11]

من الآية (1:11) صفات المؤمنين ثم تكلم الله تعالى عن نشأة الإنسان، وعندما يأتيك في كلام الله الكلام عن نشأة الإنسان هذا فيه دلالة على قدرة الله الفائقة، كما أن المراد منه إثبات قدرة الله على البعث -هذه في القواعد الحسان للشيخ عبد الرحمن السعدي- ثم يذكر لك  العديد من الآيات الكونية التي تدلك على وجود الله، ويسترسل معك في السورة ويأتي الحديث عن الكفار ﴿۞هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ٣٦ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٣٧ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ٣٨﴾ [المؤمنون:36-38] هناك حديث عن الرسل لما يدعون قومهم إلى الله هناك استرسال السورة، اتيان الرسل لأقوامهم، فالأقوام ينقسموا إلى قسمين قسم يوحد الله وقسم يكفر بالله أين أتى هذا الكلام؟ ابتداءً من ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون:52] هذه دعوة الرسل التي ترتب عليها؟ ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًاۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ٥٣ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ٥٤﴾ [المؤمنون:53-54] الكلام هنا على الكفار. ما معنى غمرة؟ ما معنى في غمرتهم؟ ممكن نقول غرقى في غمرتهم أليس كذلك؟ وهنا كلمة غمرة يعني تدلك على أن الموضوع معهم كبير جداً. ثم تأتي الآية التي أوردها البخاري في بداية الباب ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ٥٦﴾ [المؤمنون:55-56] ما معنى الخيرات هنا؟ المال والبنون والفتح الذي في الدنيا إذا هنا جاءت كلمة ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ من الذي يأتي لهم بالخيرات؟ من الذي يسارع لهم في الخيرات؟ الله، هذا في سياق الحديث عن الكفرة.

﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون:57] ثم يعود سياق الآيات للحديث عن المؤمنين. ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ٥٧ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ٥٨﴾ [المؤمنون:57-58] هناك تصديق جازم أعلى درجات المشاعر (الإيمان) تصديق، مشاعر مسيطرة على القلب، خوف من الله، حب لله، انكسار لله، إنابة كلها عبارة عن مشاعر الإيمان، عبارة عن مشاعر مسيطرة ولذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي في تعريفه لليقين يقول: "العلم الواصل إلى القلب" هذا تعريف، "العلم الذي باشر القلب" تعريف آخر في سورة السجدة "العلم التام الموجب للعمل"، إذا متى سيوجب العمل؟ عندما يسيطر التصديق على القلب.

﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ٥٩ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ٦٠﴾ [المؤمنون:59-60] ما معنى كلمة وجلة؟ أي خائفة ألا تقبل أعمالهم وألا تنجيهم من عذاب ربهم، خائفين أن يكون في العمل أي شائبة من عجب، من رياء، من تسميع، من أي شيء يسقط العمل من رؤية النفس؛ وجلة قالت: أهي في الزناة أم في الذين يسرقون ولا يتصدقون ولا يصلون؟ قال: لا يا عائشة في المؤمنين وتلا هذه الآية.

﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ٦٠ أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ٦١ [المؤمنون:60-61] من الذين يسارعون؟ المؤمنون هم الذين يسارعون في الخيرات، الخيرات هي الأعمال الصالحة. عرفتم كيف فسر البخاري الحديث؟ كان لابد من عرض سياق السورة كي نفهم ما أتى به البخاري، ما الذي جعله في حديث الرسول ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس. فهو يريد أن يقول لك أن الخيرات التي في الدنيا ليست علامة على حب الله. لأن الله عز وجل يسارع هو بنفسه سبحانه وتعالى العلي يسارع للكفرة في الخيرات بل لا يشعرون وإنما الغنى الحقيقي الغنى بالأعمال الصالحة والإيمان يسارع بها المؤمنون، فيغنيهم هو سبحانه وتعالى من فضله في أنفسهم.

نعيد ما ذكرناه من شراح الحديث؛ نبدأ أولاً بفهم الآية في سورة المؤمنون ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ٥٦ هذا في كلام عن الكفار الذين عندما نزل دعوة الرسل وقالوا ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وقال الله: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًاۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وهذه الآية فيها دلالة على أن الأحزاب ليست من دين الله التحزب ليس من دين الله. كلنا نتبع كلام واحد كلام الله وسنة واحدة سنة النبي المفروض أننا جميعاً على قلب رجلٍ واحد محمد ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام:159] طوال الوقت نجد أدلة من كلام الله وكلام الرسول نسأل الله من فضله، وأنا متعمدة استخدم لفظ النور. فالذي يلي سورة المؤمنون سورة النور هذا ربط.

معلوم أن سورة المؤمنون كيف بدأت بقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وهذا حكمٌ من الله لفلاحهم، ثم أتى بعد ذلك بصفات للمؤمنين أتى من السياق الذي نتدارسه الآن في كتاب البخاري من هم ضدهم وفي أثناء وصف من هم ضدهم وصف المؤمنون مرة أخرى أي جاء الكلام بدايةً في سورة المؤمنون عن المؤمنين، ثم بدأ يتكلم عن الآيات الكونية التي لابد لأي أحد يراها ويفكر ولو لحظات لابد يؤمن، ثم بدأ يذكر لك دعوة الرسل إلى أقوامهم. وكيف كانت استجابة الرسل؟ هل كانت استجابة الناس للرسل واحدة؟ لا. هذا قد تقطعوا امرهم بينهم زبرا كل حزبٍ بما لديهم وبدأ يتكلم عن الكفرة. اللذين معهم مال وبنين. وبعدما تكلم عن الكفار بدأ مرة أخرى يعود في نفس السياق إلى وصف المؤمنين حتى تتخيلي الصورة كاملة، وتنتهي صفاتهم في الآيات من (11:1) ثم بعدما يصف الله عز وجل لنا كمال صفاته سبحانه وتعالى وآثار كمال صفاته في خلق الإنسان وفي خلق الأشياء يقول أن هؤلاء المؤمنون هم الذين انتفعوا من آثار تفكرهم في آيات الله الكونية، ثم يأتي إرسال الرسل بعد النظر في الآيات الكونية، وتبين من إرسال الرسل استجابة الأقوام لهم إذ تبين أنهم لم يكونوا بنفس الاستجابة إلى أن وصلنا إلى قوله تعالى ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ أخبرنا الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون عن نوح عليه السلام وأخبرنا عن نبي لم يسمى اسمه ولكنه اخبرنا عن سنته، واخبرنا عن عيسى، ثم اخبرنا عن استجابة الناس لهم.

هؤلاء الذين ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ما صفاتهم؟ ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ هم يظنون هذا الظن أن الله عز وجل يسارع لهم في الخيرات، فكان موقفهم من الرسل عدم الاستجابة، ثم رأوا أن الله سبحانه وتعالى يمدهم بمال وبنين فظنوا أنها مسارعة لهم في الخيرات -وهذه فتنة عدد كبير جدا من المسلمين- فيجب أن نفهم الآية بشكل صحيح فهنا ﴿أَيَحْسَبُونَ وهي بمعنى الظن، ﴿بَل لَّا يَشْعُرُونَ أي لا يشعرون بأن هذا استدراج لهم، فالله عز وجل يسارع لهم من أجل أن يأثموا ويصلوا إلى ما حكم عليهم به إلى هنا انتقالة دقيقة تحتاج إلى فهم كي نفهم قول ابن عيينة "وأعمال لم يعملوها"، لماذا يسارع لهم الله في الخيرات؟ هل لرضاه عليهم؟ أم لتكون حجة عليهم ويفتح لهم الله ما أرادوا؟ ولماذا يعاملهم الله بهذا؟ لعلمه بما انطوت عليه سرائرهم من إرادة الكفر والعصيان واستحباب الدنيا على الآخرة، مع علمهم بالحق ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:14] فغالب الكفرة يعرفون الحق، وكذلك اليهود والقسيسين من النصارى غالبهم يعرف أن دين الإسلام هو دين الحق. ومع ذلك لا يؤمنون حتى لا تسحب منهم الأمور الدنيوية، واستحباب الحياة الدنيا على الآخرة، وهذا سيكون السبب الرئيسي في الأحزان التعلق بالدنيا والأشخاص.

فالانتقالة التي حدثت هي أنهم ظنوا ظنا خاطئا بعدما انقسموا على أنبيائهم وتحزبوا فقد ظنوا أن عطاء الله لهم في الدنيا دليل على رضاه.

هل عطاء الله للعبد في الدنيا دليل على رضاه سبحانه وتعالى على العبد؟

الإجابة: أن العطاء الدنيوي ليس علامة على رضا الله ولكن علامة رضا الله المسابقة في الخيرات وأن يفتح الله لعبده المؤمن الأعمال الصالحة وإن كان أفقر الخلق فيكون عند الله تعالى أعلى الخلق.

فقد ظنوا أن عطاء الله دليل على رضاه وهذا ليس الصحيح ثم انتقل إلى حقيقة السياق أنه لو نظرت لحال المؤمنين لتبين لك ما هو الرضا الحقيقي لله، فالقوم الأولين قال الله فيهم ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ٥٦ أي يشعرون بالأمان ولذلك جمعوا بين إساءتين كفرهم مع إدرار الله عليهم بالعطايا وبين الأمن من مكر الله، ثم يأتي ضدهم المؤمنين فهم لا يفعلون الصالحات ويفرحون بعملهم؛ بل جمعوا بين الاحسان في معاملة الله ومعاملة خلق الله وبين مشاعر الخوف، فقال الله عنهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ٥٧ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ٥٨ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ٥٩ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ٦٠ أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ٦١ وهنا يتضح أن الله عز وجل سارع بالخيرات الدنيوية لأهل الكفر وهم يحسبون أن المسارعة الدنيوية من رضا الله، وهذا زعم باطل والصحيح أن الخيرات أن يعمل الإنسان ويبذل في سبيل الله أي شيء يملكه.

فيقول شراح الحديث أن الصحيح أن الإنسان يعمل ويبذل في سبيل الله عز وجل جهده وماله وكل ما يملك ويحسن في العمل مع جمعه للخوف من الله عز وجل، وأن يعتري نفسه شيء يحبط عمله. وتبين أن الخيرات عند الكفار خيرات دنيوية، والخيرات عند المؤمنين هي أن يكون الله راض عنهم وعلامة رضا الله عن عبده المؤمن أن يفتح الله عز وجل على هذا العبد أبواب يسارع فيها للخيرات التي هي في الحقيقة العمل الصالح الذي يرفعه الله به، وأعظم ما يفتح للإنسان هو الفتح في فهم كلام الله وكلام رسوله إذا تبين لماذا البخاري أتى بهذه الآية.

هناك نقطة جميلة ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ويأتي هذا مع قول ابن عيينة "أعمال لم يعملوها" فهناك أعمال للكفار لم يعملوها وهذا من علم الله السابق. ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ والغمرة أي شخص غارق لا يرى الحقائق أبدا.

وتشرح آية سورة النور ما معنى غمرة؟ ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَاۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [النّور:40] -اللهم اجعل النور في قلوبنا، وضاعف لنا الأنوار في قلوبنا- فحقيقة الدنيا أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وفضل الإيمان على أهله، وعيشة المؤمنين في سعادة لأن لهم سميع يسمعهم، لهم بصير يحيط بهم، لهم لطيف يلطف بهم فيما جرت به المقادير. كل الأخبار عن الله تعطيك نور في قلبك وسعادة في نفسك الذي في ظلمات الكفر لا يعرف هذا ممكن أن يكون مسلم ولكنه في ظلمات الجهل، ولم يفهم ما معنى اسم الله اللطيف فهو دائماً مضطرب وقلق من المستقبل لم يعرف ما معنى اسم الله المؤمن فدائماً خائف وقلق لم يعرف أن الله ديان يعامل كل عبد بمقام في قلبه فدائماً متضايق من البشر. ظلمات بعضها فوق بعض فكما ان الكافر في ظلمة تامة وهي ظلمة الكفر والمعاصي، كذلك هناك مسلمين في ظلمة الجهل فالجهل ظلمة عجيبة فهو ظلمة نفسية تؤدي إلى الاضطراب النفسي. نسأل الله السلامة والعافية. فكأنه في غمرة في بحرٍ لجي إذا أخرج يده لم يكد يراها، قبل أن نتدبر هذا الكلام هل كنا نربط سورة المؤمنون بالنور؟ لذلك دائماً انصح بحضور دروس التفسير وأن نقرأ كلام المفسرين كم ترك الأول للآخر يجمعوا لك ويعطوك نور مجموع بفضلٍ من الله ومنة.

لذلك قال الله عز وجل بل قلوبهم في غمرةٍ من هذا يعني غمرة عن هذه الحقائق، هذه الحقائق التي هي أن عطاء الله في الدنيا ليس دليل على رضاه، وإنما الخيرات الحقيقية هي الأعمال الصالحة. فهم في غمرةٍ من هذا. ثم قال الله: ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ [المؤمنون:63] أي أن الله سيتركهم ويمد في أعمارهم حتى يعملوا الأعمال التي تزيد من آثامهم ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر وهذا تفسير قول ابن عيينة الذي اورده البخاري تفسير قوله "لم يعملوها لابد ان يعملوها" أي هم الآن ما عملوها. أعمال كفرية ما عملوها لن يميتهم الله حتى يستوفوا أعمالهم كلها أي لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها وعملها، فكل ما كتبه الله منك في علمه الواسع بما سيقع منك.

لماذا أتى البخاري بباب الغنى غنى النفس مع هذا السياق من سورة المؤمنون؟

أولئك الذين طمعوا كان حسبانهم كله أن رضا الله هو أن يمدهم بمال وبنين الذي هو كثرة العرب، وحياتهم كلها دائرة حول المال والبنين أي ان أطماعهم وآمالهم وتفكيرهم كله يدور حول المال والبنون، وعندما نقرأ في السياق الذي أراد البخاري أراد منا أن نفكر أنه ليست المسارعة بالخيرات في الدنيا هي دليل رضا الله؛ وإنما كما قال سبحانه وتعالى أن يفتح لك الباب فتسارع أنت في الخيرات لما أتى في وصف سياق المؤمنين ﴿أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [المؤمنون:61] يبين لك الله الصفات التي يحبها منك لذلك المتدبر الذي يريد أن يعمل بالقرآن يرى ما هي صفات الكفار ويحترس منها، وما هي صفات أهل الكتاب ويحترس منها، فقد أورد الله سبحانه وتعالى هذه الصفات حتى يحترس منها المؤمنين لأن هناك من المسلمين من يقع في أعمال اليهود والنصارى، رسول الله قال: ((لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلَكم، شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ تبعتُمُوهم))، قلنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنصارى؟ قال: ((فمَنْ؟)) [البخاري: 7320].

وقال : ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)).

الله عز وجل يفتح لك الباب في الفهم لتسارع في الخيرات وأنت طامع فيما عند الله سبحانه وتعالى فالمقصود بأن الغنى غنى النفس أن من طمع فيما عند الله يوم القيامة غير من طمع في الدنيا، فمن طمع في أمور الدنيا في غاية الفقر.

عن أبي هريرة عن النبي قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)) ما معنى العرض؟ كثرة المال وكثرة الأمور التي يستطيع الإنسان أن يستعملها في دنياه، ولكن الغنى غنى النفس أي لا تكون النفس جائعة عندما تحرم من أمر معين، فإذا نظرنا لأحوال الدنيا حولنا قلنا صدق الله صدق رسول الله.

"كثرة العرض دليل على فقر النفس" فالفقر الحقيقي هو الحاجة فنحن البشر فقراء بذاتنا فلا نصبح أغنياء إلا بالأشياء فنحن فقراء إلى أحذيتنا، وكذلك حاجتنا الأساسية من طعام وشراب ونوم.

تعليقات